سورة الإسراء - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14)}.
التفسير:
قوله تعالى: {عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً}.
هو خطاب لبنى إسرائيل، وإلفات لهم إلى بأس اللّه الذي لا يردّ عن القوم الظالمين، وأنهم بعد أن ينفذ فيهم قضاء اللّه، ويقعوا تحت {وعد الآخرة} لن يرفع عنهم التكليف المفروض على كل إنسان.. فهم- شأنهم شأن الناس-
معرضون لرحمة اللّه، إن نزعوا عماهم عليه من شر وفساد، ورجعوا إلى اللّه، واستقاموا على طريق الحق والخير.. فإن عادوا- بعد أن يضربوا الضربة الثانية تلك- عاد اللّه سبحانه وتعالى عليهم بالبلاء ورماهم بالنقم، وسلط عليهم من عباده من يأخذهم بالبأساء والضراء.. ثم حشروا محشر الكافرين، فكانت لهم النار حصيرا، أي سجنا مطبقا عليهم، يحصرون فيه، ولا يجدون لهم طريقا للخلاص منه.
وقوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن بنى إسرائيل قد تنكبوا طريق الحق، وركبوا طرق الباطل والضلال، فضربهم اللّه سبحانه وتعالى هاتين الضربتين المدمرتين، وكانت إحدى هاتين الضربتين، على يد المسلمين، أصحاب المسجد، الذي استولى عليه بنو إسرائيل.. فكان قوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} دعوة لبنى إسرائيل إن هم أرادوا أن يرفع عنهم بلاء اللّه، وتستقيم طريقهم في الحياة أن يؤمنوا بهذا القرآن، الذي يهدى للطريق المستقيم وألا يبحثوا عن دواء غيره يطبّون به لدائهم، إن أرادوا أن يخرجوا من هذا البلاء الذي ضربه اللّه عليهم.
وفى قوله تعالى: {وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً} إشارة إلى بنى إسرائيل، وإلى أنهم المرادون بهذا الخطاب، فهم لا يؤمنون بالآخرة، كما يؤمن بها المؤمنون، وإنما يرون أن الجزاء معجل في هذه الدنيا، وأن الجنة والنار هما في هذه الدنيا، حيث السعداء والأشقياء، وحيث الأغنياء والفقراء.. هذه هى عقيدة بنى إسرائيل في الآخرة.. وقد أشار إليهم سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
فالمراد بهذه الآية هم اليهود.. والمطلوب منهم أن يؤمنوا بالآخرة وأن يستيقنوها.. فهم وإن ذكروا الآخرة لا يذكرونها إلا بألسنتهم، ولكن قلوبهم منعقدة على إنكارها.
قوله تعالى: {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا}.
تكشف هذه الآية عن حال من أحوال الإنسان، وهو أنه مولع بحبّ العاجل من المتاع، يطلبه، ويؤثره على الآجل، وإن كان فيه من الخير أضعاف العاجل الذي طلبه وآثره..!
ومن هنا، كان أكثر الناس يطلبون الدنيا، ويستوفون حظوظهم منها، دون أن يتركوا للآخرة شيئا.. وهذا ما يحملهم على أن يهتفوا بالشرّ، ويلحّوا في طلبه، حتى كأنه خير محقق.
ووصف ما يستعجله الناس من متاع الحياة الدنيا بالشرّ، إنما هو بالإضافة إلى الحال التي يتلبّس بها طالبوه، حيث يصرفهم عن الآخرة، ويعمى أبصارهم عن النظر إليها.. فهذا المتاع ليس شرا في ذاته، وإنما هو شرّ بالنسبة لمن شغلوا به عن الآخرة، وأذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا، واستمتعوا بها.. وفى هذا أيضا نخسة لبنى إسرائيل، وأنهم طلّاب دنيا، لا ينظرون إلى ما وراءها.
قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها.. أنها تكشف عن وجهين من وجوه الحياة المتسلطة على الناس، وهما النور والظلام، وهما أشبه بالوجهين اللذين يعيش فيهما الناس، وهما وجها الخير والشرّ اللذان أشارت إليهما الآية السابقة.
والليل والنهار آيتان من آيات اللّه، تحدّث كل آية منهما عن قدرة اللّه، وعن حكمته.. وكلّ منهما مكملة للأخرى، بل ومعلنة عنها، ومحققة لوجودها.
فلو لا الليل ما كان النهار، ولو لا النّهار ما عرف الليل.
وكذلك الخير والشر.. آيتان من آيات اللّه في الناس.. كلّ منهما مكمّل للآخر، ومعلن عنه، ومحقق لوجوده.. فلو لا الخير ما كان الشر، ولو لا الشرّ ما عرف الخير.
والدنيا والآخرة.. آيتان من آيات اللّه.. في الناس.. فكل منهما مكملة للأخرى، موصولة بها.. فلو لا الدنيا ما كانت الآخرة، ولو لا الآخرة ما كانت الدنيا إلا لعبا ولهوا، وما غرس الغارسون ما غرسوا فيها من معالم الحق والخير.. وما أعدّوا فيها هذا الزاد الطيب الكريم، الذي ادخروه للآخرة.
وفى قوله تعالى: {فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ} إشارة إلى أن الليل موقف سلبىّ بالنسبة لحياة الإنسان.. يخلد فيه الإنسان إلى الراحة، ويسلم فيه نفسه للنوم، ليعبّىء ذاته بأسباب القوة، والنشاط، حتى يعمل في وجوه الحياة حين يطلع النهار بآيته المبصرة! والليل هو الليل، وإن بدّد الناس ظلامه بتلك المصابيح التي تجعل منه نهارا أو ما يشبه النهار! فهو سكن الناس، وهو الظرف الذي يأخذون فيه حظهم من الراحة والنوم.. إنه أشبه بالدنيا، والنهار أشبه بالآخرة..!
أكثر الناس في الدنيا، في ليل لا يبصرون، وفى سبات لا يستيقظون.
فإذا كانت الآخرة، فهم في نهار مبصر، وفى يقظة واعية مدركة.. وفى هذا يقول الرسول الكريم: {الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا}.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [22: ق].
وفى قوله تعالى: {وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} إشارة إلى أن النّهار سعى وعمل، حيث يبصر فيه الإنسان طريقه ومسربه في الحياة.. فلينتفع بهذه النعمة، وليضع قدمه على طريق مستقيم، حتى يتجنّب العثرات والزلات.
وقد قرىء: {مبصرة} بفتح الميم وسكون الباء، وفتح الصاد.. اسم آلة.. أي جعلنا آية النهار آلة للإبصار.
وقوله تعالى: {وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ.} أي أن الليل والنهار، إذ يقتسمان الزمن، ويتداولانه فيما بينهما، كان سببا في معرفة الزمن، وفى رصد حركاته، وعدّ السنين وحسابها.. وأنّه لو كان الزمن ليلا سرمدا، أو كان نهارا دائما، لما عرف الناس للزمن حركة، ولما تولّد لهم من حركته الأيام، والسنون! قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً}.
ألزمناه: أي أوجبنا عليه، وأخذنا به.
وطائره: عمله، من خير أو شر.. وسمّى عمل الإنسان طائره، لأنه حصيلة سعيه في هذه الدنيا، وقد كان العرب، يتخذون من الطير فألا يجرون عليه أعمالهم.. فإذا أطلقوا طائرا، فطار من الشمال إلى اليمين، تفاءلوا به وسمّوه سانحا وإذا طار من اليمين إلى الشمال، تشاءموا به وسموه بارحا.
فأعمالهم كلها- على هذا التقدير- من خير أو شر، هى مما جرى به الطير:
سانحا، أو بارحا.
وقد ورد في القرآن الكريم، ما جرى على ألسنة الذين يتخذون من الطير فألا! فقال تعالى: {قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [18: يس] وقال سبحانه: {فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ.. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ} [131: الأعراف].
والمعنى: أن كل إنسان يأنى يوم القيامة، وقد حمل معه حصيلة أعماله كلها، التي عملها في دنياه، من خير أو شر، وقد لزمته، ونيطت به، حتى لكأنها قلادة تمسك بعنقه.
فهذه هى الحلية التي يتحلّى بها الإنسان من دنياه.. هى طائر، قد علق بعنقه، لا يطير يمينا أو شمالا، ولا يتحرك سانحا أو بارحا.. حيث لا عمل بعد أن يترك الإنسان هذه الدنيا.. لقد انقطع عمله، وسكن طائره الذي كان يصحبه في الشرّ والخير ونزل معه إلى قبره، متعلقا به، كما يتعلق الطفل بصدر أمه، ويشدّ يديه إلى عنقها.
وقوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً}.
أي أنه بعد أن يبعث الإنسان، يجد هذا الطائر قد أصبح كتابا منشورا.. {لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها}.
قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} هو أمر إلى كل ذى كتاب أن يقرأ كتابه، وأن يحاسب نفسه بما في هذا الكتاب، فهو ناطق مبين.. {هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [29: الجاثية].


{مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)}.
التفسير:
قوله تعالى: {مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}.
فى هذه الآية أمور:
أولا: أنها تعقيب على الأحكام، والمقررات التي عرضتها الآيات السابقة، وعرضت فيها المؤمنين، والكافرين، وحصيلة كل ما يعمله الإنسان في الدنيا، وحسابه عليه في الآخرة.
{مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها} فما يعمله الإنسان من خير فهو له، وما يعمله من شر فهو واقع عليه، لا يصيب أحدا غيره.. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
ثانيا: أنه لا تزر وازرة وزر أخرى.. فلا يلقى حمل أحد على أحد.
والوزر: الحمل، ويستعمل للدلالة على الأعمال السيئة، إذ كانت هذه الأعمال عبئا على أصحابها، بما يصيبهم منها من عناء وضنى، فصحّ أن تشبّه بالأحمال الثقيلة.
ومعنى: {تزر} تحمل، والوازرة الحاملة.
وقد أسند الفعل إلى النفس ولهذا أنّث.. والمعنى: ولا تحمل نفس حمل نفس أخرى.. كما يقول سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [38: المدثر].
ثالثا: أنه مما قضت به حكمة اللّه سبحانه وتعالى ورحمته بالناس، أن يقيم حجته عليهم، قبل أن يحاسبهم، وذلك بدعوتهم إليه عن طريق رسل يختارهم من الناس، ليبلغوهم رسالة اللّه إليهم، ويكشفوا لهم الطريق إليه.. {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}.
فإذا جاء الرسول إلى الناس لم يكن لهم على اللّه حجة في أخذهم بالعذاب إن لم يستجيبوا لرسول اللّه، ولم يؤمنوا باللّه! وإنه مما يسأله الكافرون، والضالون يوم القيامة، وهم يعرضون على اللّه سبحانه، هذا السؤال التقريرى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا بَلى! وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ} [71: الزمر].
قوله تعالى: {وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً}.
قرىء في هذه الآية {أمرنا} آمرنا، بمدّ الهمزة، وأمرنا بكسر الميم، وأمّرنا بتشديدها، وفسّرت كلها بمعنى كثّرنا.
هذه الآية الكريمة تشير إلى قضاء اللّه سبحانه، النافذ في العباد، وسنّته الجارية عليهم، المطّردة فيهم.
فإذا أراد اللّه سبحانه وتعالى أمرا استدعى له أسبابه، ثم أجراه على هذه الأسباب، وأقامه على سننه الكونية.
وهو سبحانه مبدع، قادر، يقول للشىء كن فيكون.. وليست هذه الأسباب وتلك السنن حدودا تحدّ من سلطان القدرة، والإبداع.. وإنما هى في ذاتها من عمل القدرة، ومن آيات الإبداع، إذ كانت الحكمة قائمة مع الإبداع والقدرة.. وإلا فلو كانت القدرة قدرة مطلقة لا تتلبس الحكمة بها لكانت قوة طاغية، ترمى بالفوضى، والاضطراب.. تعالت قدرة اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.
وصفات اللّه سبحانه وتعالى، في كمالها وجلالها، ليست على هذا التصور الذي نتصوره، من أنها صفات متعددة.. وإنما هى في ذاتها صفة واحدة للّه.
فكما أنه سبحانه واحد في ذاته، هو سبحانه واحد في صفاته.. ولكن هذا التعدد في الصفات، إنما هو من حيث نظرتنا نحن إلى تجلّيات اللّه سبحانه وتعالى، فحين ننظر إلى العلم مثلا، ننسب العلم الكامل الشامل للّه سبحانه وتعالى.
ولكنه علم من؟ إنه علم اللّه المتصف بصفات الكمال كلها.. وهكذا الشأن في كل صفة نصف اللّه جلّ وعزّ بها.. إنها صفة اللّه المتصف بكل كمال، المنزّه عن كل نقص.
والآية الكريمة تحدّث- كما قلنا- عن قضاء اللّه في عباده، وسنّته فيهم، وأنه- سبحانه- إذا قضى بأن يهلك قرية لم يهلكها حتى يقيم الحجة عليها، بإرسال الرسل أولا، ثم بما يكون منها من عصيان الرسول، وكفر باللّه، وبما يسوق إليه الكفر من ضلال وفساد.. ثانيا.
وفى قوله تعالى: {أَمَرْنا مُتْرَفِيها}.
إشارة إلى قضاء اللّه النافذ فيهم، وأنهم- تحت حكم هذا القضاء، لن يؤمنوا أبدا ولو جاءتهم كلّ آية.
فكأنهم مأمورون بالكفر والعصيان، وإن لم يكن ثمّة أمر ولا إلزام..!
{إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ}.
وتسأل: ما الحكمة من إرسال الرسل إلى من حقّ عليهم القول؟
والجواب، ما علمت من قوله تعالى: {وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} وذلك لإقامة الحجة عليهم، ولإظهار مالديهم من إرادة تواجه إرادة اللّه.
وإن كانت إرادة اللّه هى الغالبة! وتسأل: ما بال هؤلاء الذين حقّ عليهم القول يعذّبون وهم مسوقون سوقا إلى قدرهم المقدور؟
ولا جواب، إلّا أنّ هذه هى مشيئة اللّه في عباده.. {وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ}.
ولا يسأل الخالق عما يفعل فيما خلق: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [23: الأنبياء].
وفى الإشارة إلى المترفين وهم أصحاب الثّراء، الذي يعيش له أهله في فراغ وبطالة- يعنى أن هؤلاء المترفين لا يرجى منهم خير، ولا يطبّ لدائهم بدواء.. فهم كائنات فاسدة هازلة، لا تجدّ أبدا.. ثم هم مع هذا قدوة الناس، وقادتهم بما لهم من ثراء!- وقوله تعالى: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ}.
هو إشارة إلى ما قضى اللّه به في عباده، وما حكم به على هذه القرية، من الهلاك والتدمير.. فقول اللّه: هو قضاؤه وحكمته.. وإحقاق القول: هو وقوعه، ونفاذه.
وأخذ القرية كلها بفساد المفسدين من أهل الترف فيها، إنما لأن أحدا من أهل القرية لم يضرب على أيديهم، ولم ينكر عليهم هذا المنكر، واللّه سبحانه وتعالى يقول: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [25: الأنفال].
قوله تعالى: {وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}.
أي من سنن اللّه في عباده، هذا الموت الذي كتبه عليهم، وجعله حكما واقعا على كل حىّ.. وهذه القرون، التي خلت من بعد نوح إلى اليوم، قد هلك أهلها جميعا، وهم أعداد كثيرة، تضمّ أمما وشعوبا لا يعلمها إلا اللّه، وقد مضوا جميعا إلى ربّهم، ليس معهم شيء مما كان لهم في دنياهم، إلا ما عملوا من خير أو شر.
وفى قوله تعالى: {وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}.
.- إشارة إلى أن علم اللّه محيط بكل ما عمل الناس، لا يعزب عنه مثقال ذرة مما عملوا.
وخصّ الذنوب بالعلم، لأنها هى الخطر الذي يتهدد الناس، حتى يحذروه، فيكتب لهم الأمن والعافية.. فإنه إذا توقّى الإنسان الذنوب، استقام على طريق الحق والخير، لأنها هى الوارد الذي يرد عليه ويفسد فطرته.
قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً}.
العاجلة، هى الدنيا، وما فيها من متاع.
فمن قصر نظره على الدنيا، وعمل لها، ولم يلتفت إلى الآخرة.. فذلك هو كل حظّه، وهو حظ قدّره اللّه تبارك وتعالى له، لا أنّه جاء عن تقديره وتدبيره، وإرادته.. فليس كل من أراد الدنيا بمستجيبة له، وإنما الذي يستجاب له منها، هو ما أراده اللّه له.
وفى هذا ما يشير إلى أن طالب الدنيا قد بخس نفسه حظّها من الآخرة، حيث لم يعمل لها، ولم يصرف من همّه شيئا إليها، على حين أن طلبه للدنيا وحصر همّه فيها لم يجىء إليه بشىء إلا ما أراده اللّه له.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [20: الشورى].
وفى قوله تعالى: {لِمَنْ نُرِيدُ} إشارة إلى أن طالبى الدنيا لم يطلبوها إلا لأن اللّه سبحانه وتعالى أرادهم لها، وجعلهم من أهلها.
وقوله تعالى: {مَذْمُوماً مَدْحُوراً}.
المذموم: المنحوس الحظ، والمدحور: المخذول.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}.
هو الوجه المقابل لطلاب العاجلة.. وفى هذا الوجه يظهر أولئك الذين يريدون الآخرة، ويعملون لها.. وعملهم هذا محمود طيب، يشكره اللّه سبحانه وتعالى لهم، ويجزيهم الجزاء الطيب عليه.
وقوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} هو قيد وارد على العمل الذي يعمله العاملون للآخرة، حتى يكون عملا مبرورا مشكورا، وهذا القيد هو الإيمان.. فكل عمل- وإن كان في أصله حسنا- لا يقبل عند اللّه، إلا إذا زكّاه الإيمان باللّه، وبهذا يكون العمل مرادا به اللّه، ومبتغى به مرضاته.. فيتقبله اللّه، ويجزل الثواب عليه.
قوله تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً}.
هو تعقيب على ما كشفت عنه الآيات السابقة من العاملين للدنيا، والعاملين للآخرة.. فهؤلاء وهؤلاء جميعا، إنما يرزقون من فضل اللّه، وينالون من عطائه.. {وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} فهو عطاء يشمل الخلق جميعا.
محسنهم ومسيئهم..! فهذه النعم التي يتقلب فيها الذين لا يؤمنون باللّه، هى من عطاء اللّه، ولكنهم في عمى وفى ضلال: {وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} [41: المائدة].
قوله تعالى: {انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} هو إلفات إلى هذه الدرجات المتفاوتة بين الناس، فيما أمدهم به اللّه سبحانه وتعالى في هذه الدنيا.. فهم ليسوا على حظ واحد فيما نالوا من حظوظ الدنيا.. إذ فيهم من وسّع اللّه له في الرزق، فملك القناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وفيهم من لا يملك إلا ثوبا مرقعا وكسرات من الخبز.. وبين هؤلاء وأولئك درجات.
هذا كلّه في الدنيا.. الناس على تفاوت كبير في حظوظهم منها.. وهم في الآخرة كذلك، درجات متفاوتة، وحظوظ متباينة.. فريق في الجنة، وفريق في السعير.. وأهل الجنة درجات، وأصحاب النار دركات.. وشتّان ما بين الدنيا والآخرة، وما بين النار والجنة.. {وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا}.
إنها دار البقاء والخلود.. {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ} [185: آل عمران].
قوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا}.
الخطاب للنبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وهو خطاب عام يشمل الناس جميعا، إذ كان صلوات اللّه وسلامه عليه- إمام الإنسانية، ورسولها، وفى توجيه هذا النّهى للنبىّ ما يشير إلى خطر الأمر المنهىّ عنه، وإلى أنّه إن وقع من إنسان- أي إنسان- حبط عمله، وساء مصيره.
وفى التعبير عن سوء المصير، بالقعود، ما يشير إلى فداحة الخطب، وأنه من الهول بحيث ينهار معه بناء الإنسان، وتنحلّ قواه، فلا يقدر على الحركة، بل يتهاوى، ويسقط على الأرض، وعن يمينه وشماله، بقاياه ومخلّفاته، التي لا يأتيه منها غير الذم والتأنيب، على ما فرط منه، وإلا الخيبة والخذلان مما جمع وأوعى!


{وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30)}.
التفسير:
قوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}.
فى الآية السابقة على هذه الآية جاء قوله تعالى: {لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ} جاء ناهيا ومحذّرا ومتوعدا من يشرك مع اللّه إلها آخر.
وفى هذه الآية جاءت دعوة اللّه الناس جميعا إلى الإيمان باللّه. فهذا ما قضى اللّه سبحانه وتعالى به في عباده، حين أخذ عليهم العهد، وهم في ظهور آبائهم.
كما يقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى.. شَهِدْنا} [172: الأعراف].. فالناس جميعا- بحكم هذا العهد- مؤمنون باللّه، بفطرتهم، يولد المولود منهم، وهو على هذه الفطرة، كما يقول الرسول الكريم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، وينصّرانه، ويمجّسانه».
ومن هنا يبدو إيمان الناس باللّه وكأنه قضاء قضى اللّه به عليهم، وألزمهم إياه.. فهم مؤمنون باللّه، بحكم فطرتهم المودعة فيهم، ومطلوب منهم أن يستقيموا على هذه الفطرة، وألّا يخرجوا عنها.. فالإيمان باللّه غريزة مركوزة في كيان الإنسان، أشبه بتلك الغرائز التي تتحكم في سلوك الحيوان.. ولكن الإنسان حين يعقل ويدرك، يصبح كائنا ذا إرادة.. وهو بهذه الإرادة قد يلتقى مع الفطرة، وقد يصطدم بها.. ومن هنا يكون الإيمان والكفر، والهدى والضلال.
وقوله تعالى: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً} معطوف على ما قبله، ويصحّ عطف النهى على الأمر، والأمر على النهى، لأنهما طلبيّان.. وفى النهى معنى الأمر.
فقوله تعالى: {وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} يحمل معنى الأمر، وهو اعبدوا اللّه.. فحسن عطف الأمر عليه: {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}.
وقدّم معمول المصدر، على المصدر، للاهتمام به، لأنه مطلوب الإحسان وغايته.. وأصل النظم {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وإحسانا بالوالدين}.
ونصب إحسانا بفعل محذوف، تقديره {أحسنوا}.
وفى عطف الأمر بالإحسان إلى الوالدين، على النهى عن عبادة غير اللّه، مزيد اهتمام بالوالدين، واحتفاء بقدرهما، وتنويه بفضلهما.. وذلك لأنهما هما السبب المباشر في إيجاد الإنسان، حيث ينظر الناظر إلى مواليد الحياة، فيجد أنها ترجع إلى الذكر والأنثى، أو الأب والأم، وإن كان الخلق كله للّه سبحانه وتعالى.
ثم لا يقف أمر الوالدين عند حدّ ولادة المولود، بل إنهما يقومان على أمره، ويسهران على كفالته، وتنشئته، حتى يجاوز مرحلة الطفولة والصبا، وحتى في مرحلة الشباب، لا تنقطع رعاية الأبوين، ولا عنايتهما بأولادهما.
ومن هنا كان للأبوين هذا الحق في عنق الأبناء، وهو حق توجبه المروءة، ويقتضيه العدل، قبل أن يوجبه الدين، وتقتضيه الشريعة.
وقد دعت الشريعة إلى أداء هذا الحق، في صورة عامة مجملة، وهو الإحسان إليهما، الإحسان المطلق، الذي يشمل كل خير، ويضمّ كل إحسان.. سواء بالقول، أم بالعمل.. فكل ما هو داخل في باب الإحسان ينبغى على الأبناء أن يقدموه إلى آبائهم.. {وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً}.
وفى قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما}.
إشارة إلى مقطع من مقاطع الحياة، ومرحلة من مراحلها، يبلغها الأبوان، فيكونان فيها في حال من الضعف والوهن، وذلك حين يتقدم بهما العمر.
وهنا قد يجد بعض الأبناء أن الفرصة ممكنة لهم في أن يتخفّفوا من حقوق الوالدين، أو أن يسيئوا الأدب معهما.
ولهذا جاء قول اللّه هنا منبّها إلى تلك المرحلة التي قد يبلغها الأبوان من العمر، وما ينبغى أن يكون عليه سلوك الأبناء فيها معهما: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}.
و{إمّا} أصلها {إن} الشرطية، {وما} الزائدة للتوكيد.
و{أفّ} صوت، يدل على الضجر، والضيق من قائله إلى المقول له.
ولا تنهرهما: النّهر: الزجر، والتعنيف في الخطاب.
فالآية الكريمة، ترسم أدب الحديث مع الوالدين في حال بلوغهما الكبر.
فالكلمة النابية تجرح مشاعرهما، وتكدر خاطرهما، والكلمة الطيبة تنعش روحيهما وتشرح صدريهما.
إن الأبوين في حال الكبر لا يحتاجان إلى كثير من الطعام أو الكساء، أو غيرهما من متع الحياة، وإنما الذي يحتاجان إليه في تلك الحال، هو الإحسان إليهما بالكلمة الطيبة، إذ كان أكثر ما يملكانه ويتعاملان به في هذه الحال هو الكلام، أخذا، وعطاء.
قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً}.
وخفض الجناح، كناية عن لين الجانب، ولطف المعاشرة، ورقّة الحديث.
والإنسان فيه جانبان من كل شىء.. جانب الخير، وجانب الشر.. جانب القوة، وجانب الضعف، جانب الشدة، وجانب اللين، وهكذا.
وبين جانبى الإنسان إرادة، هى التي تنزع به إلى أي الجانبين.. فهو في هذا أشبه بالطائر، حين يريد الاتجاه إلى أية جهة، يخفض جناحه لها، على حين يفرد الجناح الآخر.
فكأنّ الإنسان حين دعى إلى أن يلين لأبويه، وأن يرّق لهما، قد مثّل بطائر أراد أن يأخذ هذا الجانب من جانبيه، وهو جانب الرحمة والعطف، فخفض جناحه ومال إليه.
قوله تعالى: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً}.
هو تعقيب على ما تضمنته الآيات السابقة من النهى عن الشرك باللّه، والأمر بالإحسان إلى الوالدين.. وهذا التعقيب يقرر أنّ أساس الأعمال كلها، هى القلوب، وما تنطوى عليه، من صلاح.. فإذا كان قلب الإنسان سليما، ونيّته معقودة على الإيمان باللّه، والإحسان إلى الوالدين، ثم كان منه زلة أو عثرة، فذلك مما لا يفسد على المؤمن إيمانه، ولا يضيّع على المحسن إحسانه، إذا هو رجع إلى اللّه من قريب، وأصلح ما أفسد.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً}.
والأوابون: جمع أواب، وهو كثير الأوب، أي التوبة والرجوع إلى اللّه.. وهذا يعنى أن الإنسان في معرض الخطأ والزلل.. وأن الذي يصلح من خطئه، ويصحح من عوجه، هو رجوعه إلى للّه، وطلب الصفح والمغفرة منه.
قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
هو دعوة إلى الإحسان إلى جماعات لهم حقوق على الإنسان، بعد حقّ الوالدين، وهؤلاء هم:
ذوو القربى: أي الأقارب.. غير الأبوين.. كالإخوة، والأخوات، والأعمام والعمّات، وغيرهم ممن تربطهم بالإنسان رابطة القرابة والنسب.
والمساكين: وهم وإن لم يكونوا ذوى قرابة قريبة من الإنسان، فإنهم ذوو قرابة له في الإنسانية، وهم بعض المجتمع الذي هو منه.
وأبناء السبيل: وهم الذين يقطعهم السفر عن أهلهم، ومالهم.. فهم في عزلة ووحشة، وهم لذلك، في حاجة إلى من يؤنسهم ويذهب بوحشتهم.
وفى قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} إشارة إلى أن ما يبذله الإنسان لهؤلاء الجماعات هو حقّ لهم عنده! فإذا أداه لهم، فإنما يؤدى دينا عليه.. ثم هو مع أداء هذا الدين مثاب عند اللّه، يضاعف له الأجر، ويجزل له المثوبة.
وقد أطلق الحق، فلم يحدّد، ولم يبيّن، ليشمل كل ما هو مطلوب، حسب الحال الداعية له.
وفى قوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} ما يشير إلى أمرين:
أولهما: الإغراء بالبذل والإنفاق.. وهذا على خلاف منطوق النظم {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً}.
فإن النهى عن التبذير هنا، يشير إلى أن الدعوة إلى الإنفاق قد وجدت أو من شأنها أن تجد قلوبا رحيمة، وأيديا سخيّة، تنفق وتنفق، حتى تجاوز حدّ الاعتدال إلى الإسراف، والتبذير.. فجاء قوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} ليمسك المسرفين في البذل والعطاء على طريق الاعتدال.!
وهذا الإغراء إنما هو لما يغلب على النفوس من شحّ وبخل.
وثانيهما: النهى عن التبذير حقيقة.. وذلك أن بعضا من الناس، قد يشتد بهم الحرص على مرضاة اللّه، والمبالغة في تنفيذ أمره، فيجاوزون حدّ الاعتدال، ويجورون على أنفسهم، سواء في العبادة، أم في غير العبادة من القربات والطاعات.. فإلى هؤلاء يكون النهى عن التبذير طلبا موجّها إليهم.
حتى يلتزموا الطريق الوسط، كما يقول سبحانه، في مدح المنفقين: {وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً} [67: الفرقان].
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً}.
هو تنفير من التبذير، والإسراف.. في أي وجه من الوجوه، حتى في مجال الخير والإحسان.. وكفى بالتبذير نكرا أن يكون وجهه دائما مصروفا في وجوه الشرّ، وقلّ أن يظهر له وجه في باب الإحسان.. ومن هنا كان مكروها على أي حال، إذ كان الغالب عليه هذا المتّجه المنكر.
قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً}.
الضمير في {عنهم} يعود إلى المذكورين في قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ}.
والإعراض عنهم، هو الإمساك عن إعطاء الحق الذي هو لهم.
والرحمة المرجوّة من اللّه: هى الرزق المنتظر من فضله سبحانه وتعالى.
ومعنى الآية: إنك أيها الإنسان، إن أمسكت لضيق ذات يدك عن أن تؤدّى حق ذى القربى والمسكين وابن السبيل، منتظرا رزقا وسعة في الرزق من اللّه.. فلا يمنعنّك هذا من أن تحسن إليهم بالكلمة الطيبة {فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً}.
أي طيبا ليّنا، فيه مسرّة لهم، وجبر لخاطرهم، وتيسير لمعسورهم، وفى الحديث: {الكلمة الطيبة صدقة}.
قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}.
هو تحذير من الشحّ والبخل، وقد صوّر بهذه الصورة التي يبدو فيها البخيل الشحيح، وقد غلّت يده إلى عنقه، فلا ينتفع بها في أي وجه من وجوه النفع، كما أنه لم يكن يوجهها بخير إلى أحد.. فهى يد معطلة، فكان شدّها إلى عنقه إعلانا عن صفتها التي أصبحت عليها.
وكما أن الشحّ مذموم، فكذلك السّرف مذموم.. كلاهما خروج عن حدّ الاعتدال، الذي هو ميزان العدل، والحكمة! والبخيل والمبذر، كلاهما ينتهى أمره إلى الندم والحسرة.. البخيل إذ لم ينتفع بما بين يديه من نعم اللّه.. والمبذر، إذ ضيّع هذه النعم، ولم يبق على شيء منها.
قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}.
بسط الرزق: سعته وكثرته.
وقدر الرزق: قلّته بالنسبة للرزق الكثير المبسوط.
والمعنى: أن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يرزق الناس، وهو سبحانه الذي يبسط الرزق ويوسعه لبعضهم، على حين يعطى منه بقدر لآخرين.. وهذا وذاك إنما هو بحساب وتقدير، وعن علم وحكمة.. {إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7